فصل: بَابُ عِتْقِ مَا فِي الْبَطْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ عِتْقِ مَا فِي الْبَطْنِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ: مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: إنْ حَبِلْتِ فَسَالِمٌ حُرٌّ فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِيجَابِ، فَإِنَّمَا يُعْتَقُ هَذَا، أَوْ كَانَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ فَإِنَّمَا يُعْتَقُ سَالِمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ إنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ بِالشَّكِّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ بِالشَّكِّ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْيَقِينُ؛ لِأَنَّ بِالشَّكِّ لَا يَزُولُ وَهُنَا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ أَحَدِهِمَا فَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمَوْلَى، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ.
فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ فَهَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِعِتْقِ الْوَلَدِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ حَبَلٌ مُسْتَقْبَلٌ عَتَقَ سَالِمٌ لِإِقْرَارِهِ بِهِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ عَتَقَ سَالِمٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ.
رَجُلٌ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ لِرَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّ عِتْقَهُ جَائِزٌ وَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَكَمَا أَنَّ الْجَنِينَ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ، وَعِتْقُ الْمُوصَى لَهُ فِي مِلْكِهِ نَافِذٌ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِمَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ، وَأَبَوَاهُ مَمْلُوكَانِ فَكَانَ مِيرَاثًا لِمَوْلَاهُ، وَلَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِهِ، وَأَعْتَقَ الْوَارِثُ الْأَمَةَ، وَأَعْتَقَ مَوْلَى الزَّوْجِ زَوْجَ الْأَمَةِ فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِلْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ مِيرَاثًا لِأَبَوَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا حُرَّانِ عِنْدَ وُجُوبِ بَدَلِ نَفْسِ الْجَنِينِ فَإِنْ كَانَا أَعْتَقَا بَعْدَ الضَّرْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْقُطَ أَوْ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ، فَالْغُرَّةُ لِلَّذِي أَعْتَقَ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْجَنِينِ عِنْدَ الضَّرْبَةِ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْبَدَلُ بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَا مَمْلُوكِينَ فَلَا يَرِثَانِهِ وَإِنْ عَتَقَا بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ الْمِيرَاثُ لِلْمُعْتَقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْجَنِينِ لِلْمُعْتَقِ إذَا كَانَ عِتْقُ مَا فِي الْبَطْنِ أَوَّلًا، أَوْ كَانَا سَوَاءً، فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ الْأُمَّ أَوَّلًا فَإِنَّ الْجَنِينَ يُعْتَقُ بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَيَكُونُ الْوَارِثُ ضَامِنًا لِلْمُوصَى لَهُ قِيمَةَ الْجَنِينِ يَوْمَ تَلِدُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْجَنِينِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاؤُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَتْ لِلْمَوْلَى: قَدْ أَقْرَرْتَ أَنِّي حَامِلٌ بِقَوْلِكِ: مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ.
وَقَالَ الْمَوْلَى: هَذَا حَبَلٌ حَادِثٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِإِنْكَارِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِوُجُودِ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ يَوْمئِذٍ، بَلْ مَعْنَاهُ مَا فِي بَطْنِكِ حُرٌّ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ، وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ سَابِقًا عَلَى إعْتَاقِهِ إيَّاهَا حِينَ أَثْبَتْنَا نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ، فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ وَالْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ الْوَلَدُ لِمَوَالِي الْأَبِ هُنَا، وَكَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ قَالَ: أَتْبِعْ الشَّكَّ الْيَقِينَ وَهُمَا يُتْبِعَانِ الثَّانِي الْأَوَّلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ.
وَلَا يَمِينَ فِي الْوَلَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ ادَّعَى الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ الْيَمِينُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَعَ نَظَائِرِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالدَّعْوَى، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا جَحَدَ الْعِتْقَ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَعِنْدَ نُكُولِهِ يُقْضَى بِالْعِتْقِ، ثُمَّ الْوَلَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرْأَةِ تُسْتَحْلَفُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ إذَا نَكَلَتْ يَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَّةُ رَجْعَةِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَرَبِيٌّ عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ قَدْ تَرَكَ ابْنَةً وَمَالًا أَنَّهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ، وَلَهُ نِصْفُ مِيرَاثِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الِابْنَةِ فِي الْوَلَاءِ، وَلَكِنْ تَحْلِفُ أَنَّهَا مَا تَعْلَمُ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِيهَا حَقًّا وَلَا إرْثًا؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي الْمَالِ، وَالْمَالُ مِمَّا يُعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ وَهُوَ كَمَنْ ادَّعَى مِيرَاثًا بِنَسَبٍ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ عَلَى النَّسَبِ عِنْدَهُ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَإِنْ ادَّعَى عَرَبِيٌّ عَلَى نَبَطِيٍّ أَنَّهُ وَالَاهُ، وَجَحَدَهُ النَّبَطِيُّ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي هَذَا كَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ إنْكَارِهِ فَهُوَ مَوْلَاهُ، وَلَا يَكُونُ جُحُودُهُ نَقْضًا لِلْوَلَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَرَبِيُّ هُوَ الْجَاحِدُ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ بِالرَّفْعِ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَإِنْكَارِ أَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ كَإِنْكَارِ الزَّوْجِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَإِنْ ادَّعَى نَبَطِيٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ أَنَّهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَالْعَرَبِيُّ غَائِبٌ، ثُمَّ ادَّعَى النَّبَطِيُّ ذَلِكَ عَلَى آخَرَ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ فَإِنَّهُ لَا حَلِفَ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي الْوَلَاءِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ قَدْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ الثَّانِي لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ فَادَّعَى الْوَلَاءَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَهُوَ مَوْلًى لِلثَّانِي.
رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَادَّعَى وَرَثَتُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَرَادُوا اسْتِحْلَافَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي الْوَلَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُمْ، وَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ مَالًا بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَكَذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمَوَالِي فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْقَاتِلِ عَلَى الْوَلَاءِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْقَتْلِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ مَا يَعْلَمُ لِهَذَا فِي دِيَةِ فُلَانٍ الْمُسَمَّى عَلَيْك حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدِّيَةِ إلَيْهِ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَأَمَّا أَصْلُ الْوَلَاءِ فَلَا يَمِينَ فِيهِ عَلَى مِنْ يَدَّعِيهِ فَكَيْفَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَوَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ قَوْمِ أُمِّهِ، وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ وَلَا وَلَاءَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ، فَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ الْأُمِّ بِالنَّسَبِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَبِالْوَلَاءِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوَالِي، فَإِنْ أَعْتَقَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عَبْدًا فَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى مِنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمُعْتِقُ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتِقَ مَنْسُوبٌ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ عَلَيْهِمْ عَقْلُ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُعْتَقُهُ وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الِابْنِ وَأُمِّهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَرِثَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ الْأُمِّ مِنْ الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهَا كَانَتْ هِيَ فِي حَقِّهِ كَالْأَبِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَانَ مِيرَاثُ مُعْتَقِهِ لِأَقْرَبِ عُصْبَةِ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ ابْنِ الْأُمِّ، وَهُوَ أَخٌ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ، فَإِنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ أَخُ الْمُعْتِقِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الِابْنَ أَقْرَبُ عَصَبَةِ الْأُمِّ فِي نِسْبَةِ الْمُعْتِقِ إلَيْهَا كَالْأَبِ، فَكَذَلِكَ ابْنُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ كَابْنِ الْأَبِ.
وَلَوْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ أَخٌ وَأُخْتٌ كَانَ مِيرَاثُ الْمَوْلَى لِلْأَخِ دُونَ الْأُخْتِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ أُمِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ النِّسَاءِ بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهَا مِنْ الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَرِثْ شَيْئًا كَانَتْ كَالْمَيِّتَةِ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَهُوَ حَيٌّ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ اسْتَتَرَ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ، وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ، فَإِذَا ادَّعَاهُ فِي حَالِ قِيَامِ حَاجَتِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَرَجَعَ وَلَاءُ مَوَالِيهِ الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةِ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا عَقَلُوا عَنْهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ، وَمَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي هَذَا الْأَدَاءِ بَلْ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ الْوَلَدِ بَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ مَوَالِي الْأُمِّ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ أَدَّوْا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مَيِّتًا لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ الْأَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيَ لَهُ وَلَدٌ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَدَعْوَى الْأَبِ لَا تَكُونُ إقْرَارًا بِالنَّسَبِ بَلْ تَكُونُ دَعْوَى لِلْمِيرَاثِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنْ خَلَفَ الْوَلَدُ ابْنًا فَحَاجَةُ ابْنِ الِابْنِ كَحَاجَةِ الِابْنِ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَى الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِنْتًا فَمَاتَتْ وَتَرَكَتْ وَلَدًا، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ جَازَتْ دَعْوَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا عَنْ وَلَدٍ كَمَوْتِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ عَنْ وَلَدٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وَلَدَهَا مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ نَسَبَ أُمِّهِ لِيَصِيرَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ فَلَا مُعْتَبِرَ بِوُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إلَيْهَا، فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ أَعْتَقَ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ لَاعَنَ وَلَدٌ فَادَّعَى الْأَبُ نَسَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَلَوْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ الْمِلْكِ عَلَى الْعَبْدِ لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ فِي الدَّعْوَةِ بِاعْتِبَارِهِ، فَبَقَاءُ الْوَلَاءِ أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالنَّسَبِ إذَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ، وَالْمَوْلَى لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالنَّسَبِ، وَإِذَا لَاعَنَ بِوَلَدَيْ تَوْأَمٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا وَمَاتَ فَادَّعَى الْأَبُ الْحَيُّ مِنْهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَبَقَاءُ أَحَدِهِمَا مُحْتَاجًا إلَى النِّسْبَةِ كَبَقَائِهِمَا وَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ مُعْتَقِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إلَى نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ حِينَ أَعْتَقَهُ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ انْتَهَى شَرْحُ كِتَابَ الْوَلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِمْلَاءِ مِنْ الْمُمْتَحَنِ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ.
يَسْأَلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَبْدِيلَ الْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ بِالْعِزِّ وَالْعَلَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِينَ.

.كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ السَّلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}، وَقَالَ الْقَائِلُ: رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ فَمَا يُسْتَعْمَلُ بِالْعُهُودِ وَالتَّوْثِيقِ وَالْقُوَّةِ يُسَمَّى يَمِينًا، وَقِيلَ: الْيَمِينُ الْجَارِحَةُ فَلَمَّا كَانَتْ يُسْتَعْمَلُ بَذْلُهَا فِي الْعُهُودِ سُمِّيَ مَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْعَقْدُ بِاسْمِهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ قَسَمًا إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَفِي الشَّرْعِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِذَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِهِ بِحَالٍ.
وَالنَّوْعُ الْآخَرُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْإِيجَابُ، وَلَكِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُرْوَى عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَرِدْ عَدَدُ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ فِي أَحْكَامِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: يَمِينٌ يُكَفَّرُ، وَيَمِينٌ لَا يُكَفَّرُ، وَيَمِينٌ يَرْجُوا أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا، فَأَمَّا الَّذِي يُكَفَّرُ فَهُوَ يَمِينٌ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِإِيجَادِ فِعْلٍ، أَوْ نَفْيِ فِعْلٍ، وَهَذَا عَقْدٌ مَشْرُوعٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي بَيْعَةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَفِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ، وَهِيَ فِي وُجُوبِ الْحِفْظِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ مِنْهَا يَجِبُ إتْمَامُ الْبَرِّ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَمْرِ طَاعَةٍ أُمِرَ بِهِ، أَوْ الِامْتِنَاعُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَبِالْيَمِينِ يَزْدَادُ وَكَادَةً وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ حِفْظُهَا وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ أَوْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ».
وَنَوْعٌ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ خَيْرٌ مِنْ الْبَرِّ فَيُنْدَبُ فِيهِ إلَى الْحِنْثِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ».
وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَنَوْعٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْحِنْثُ فِي الْإِبَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}.
وَحِفْظُ الْيَمِينِ يَكُونُ بِالْبَرِّ بَعْدَ وُجُودِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حِفْظُ الْبَرِّ، وَمَنْ حَنِثَ فِي هَذَا الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}.
وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِعْتَاقِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى حَرْفِ أَوْ؛ وَلِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْأَخَفِّ وَالْخَتْمَ بِالْأَغْلَظِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَغْلَظِ.
وَاَلَّتِي لَا تُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ كَاذِبَةً يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ، وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْيَمِينُ فِيمَا هُوَ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهَا تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ فَمِنْ أَصْلِهِ مَحَلُّ الْيَمِينِ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَشَرْطُ انْعِقَادِهَا الْقَصْدُ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَنَا مَحَلُّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبَرِّ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلْفٌ عَنْهُ عِنْدَ فَوْتِ الْبَرِّ، فَالْخَبَرُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الصِّدْقُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْيَمِينِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ، وَحُجَّتُهُ قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
فَاَللَّهُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَلْبِ مَقْصُودَةٌ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ {بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ}.
مَعْنَاهُ بِمَا قَصَدْتُمْ، وَالْعَقْدُ هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ النِّيَّةُ عَقِيدَةً، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مَوْصُولَةً بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ}؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَالْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الْحَلِفِ إنَّمَا تَجِبُ بِالْغَمُوسِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} الِامْتِنَاعُ مِنْ الْحَلِفِ فَإِنَّ بَعْدَ الْحَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ الْبَرِّ وَحِفْظُ الْيَمِينِ يُذْكَرُ لِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ.
قَالَ الْقَائِلُ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتْ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ خَالَفَ فِعْلَهُ فِي يَمِينٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودٍ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَقْرَبُ مَا يَقِيسُونَ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ، أَوْ لَيُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِمَعْنَى الْحَظْرِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً أَيْ سَاتِرَةً، وَهَذَا الْحَظْرُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا، وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْغَمُوسِ؛ وَلِأَنَّ الْغَمُوسَ إنَّمَا يُخَالِفُ الْمَعْقُودَةَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي تَوَهُّمِ الْبَرِّ، وَالْبَرُّ مَانِعٌ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَانْعِدَامُ مَا يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ يُحَقِّقُ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ فِيهَا، وَلِأَنَّ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْيَمِينِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فِي مُوجِبِهِ، فَكَذَلِكَ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ، فَقَدْ بَيَّنَ جَزَاءَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةً لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَهَا؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ لَرَفْعِ هَذَا الْوَعِيدِ الْمَنْصُوصِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ.
قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَقَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعُ» أَيْ خَالِيَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: كُنَّا نَعُدُّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُودَةٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لِلْحَظْرِ أَوْ الْإِيجَابِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي، وَالْخَبَرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ كَالْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِخُلُوِّهِ عَنْ مُوجِبِ الْبَيْعِ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُحِلُّهَا وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا يَرْفَعُهَا فَإِذَا قَارَنَهَا مَنَعَ انْعِقَادَهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَارِنْهَا مَا يَحِلُّهَا؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى فِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا يَحِلُّهَا انْعِدَامُ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِهَذَا تَتَوَقَّتُ تِلْكَ الْيَمِينُ بِالتَّوْقِيتِ؛ وَلِأَنَّ الْغَمُوسَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالرِّدَّةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَسَبَبُهَا مُبَاحٌ مَحْضٌ، وَعُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ كَالْمَحْدُودِ وَسَبَبُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَكَفَّارَاتٌ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَجِبُ الْأَجْزَاءُ تُشْبِهُ الْعُقُوبَةَ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفْتَى بِهَا فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَتَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ كَالصَّوْمِ تُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ مُبَاحٌ وَبِاعْتِبَارِ هَتْكِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالْحِنْثِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ فَأَمَّا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِدُونِ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَمَعَ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ قَائِمٌ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ فَاتَ الْأَصْلُ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِيَكُونَ خَلَفًا، وَيَصِيرَ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّهُ عَلَى بَرَّةٍ.
وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي خَبَرٍ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْهُ، وَفِي مَسِّ السَّمَاءِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ فَلِتَصَوُّرِ الْبَرِّ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ، ثُمَّ لِفَوَاتِهِ بِالْعَجْزِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ، فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَصَوُّرَ لِلْبَرِّ فَلَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُوجِبًا لِلْخَلَفِ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا بَلْ يَكُونُ وَاجِبًا ابْتِدَاءً، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْكَفَّارَةِ وَاجِبَةً بِالْيَمِينِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ كَبِيرَةً بَلْ تَكُونُ سَبَبَ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ مَا هُوَ مُضْمَرٌ فِي الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فَأَفْطَرَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ {بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَعْقُودَةَ، وَكَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَقَدْتُهُ فَانْعَقَدَتْ، كَمَا يُقَالُ كَسَرْته فَانْكَسَرَ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِانْعِقَادُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَلُّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ قَالَ الْقَائِلُ: وَلِقَلْبِ الْمُحِبُّ حَلٌّ وَعَقْدٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الْمُؤَاخَذَةُ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْجَزَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ الْآخِرَةُ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا قَدْ يُؤَاخِذُ الْمُطِيعَ ابْتِدَاءً، وَيُنْعِمُ عَلَى الْعَاصِي اسْتِدْرَاجًا، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِفَصْلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَاضِي يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْكَذِبِ، وَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: أَمْرُ الْغَمُوسِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْبَأْسُ فِيهِ شَدِيدٌ.
مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْكَفَّارَةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ يَمِينُ اللَّغْوِ فَنَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا فَعِنْدَنَا صُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي كَانَ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْيَمِينُ اللَّغْوُ يَمِينُ الْغَضَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ» وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ، وَالْخَبَرُ الْمَاضِي خَالٍ مِنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَانَ لَغْوًا، فَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجَدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ وَلَمَّا أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ أَنْ لَا يَنْصُرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْفِ لَهُمْ بِعُهُودِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ».
وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ قَاصِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَتَأْوِيلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» رُفِعَ الْأَثِمُ.
وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: اللَّغْوُ هُوَ الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْيَمِينَ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ عَلَى اللَّغْوِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَمِينُ اللَّغْوِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْبَطَةٌ بِالْكَفَّارَةِ أَيْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مَعْصِيَةً لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالظِّهَارِ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، ثُمَّ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ اللَّغْوُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ (فَإِنْ قِيلَ) فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ: نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا، وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ.
(قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّ صُورَةَ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّعْلِيقُ بِالرَّجَاءِ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّعْظِيمَ وَالتَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا مَرَّ بِالْمَقَابِرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» وَمَا ذُكِرَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الشَّكِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وَلَكِنْ مَعْنَى ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ مَا ذَكَرْنَا.
وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، وَلَمْ يُوَقِّتْ لِذَلِكَ وَقْتًا فَهُوَ عَلَى يَمِينِهِ حَتَّى يَهْلِكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ حِينَئِذٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُؤَبَّدَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَبَدًا، أَوْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَتَأَبَّدُ يَقْتَضِي التَّأْيِيدَ كَالْبَيْعِ، وَمُؤَقَّتَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا الْيَوْمَ، فَيَتَوَقَّتُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْحَظْرُ أَوْ الْإِيجَابُ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَيَتَوَقَّتُ بِتَوْقِيتِهِ، وَمُؤَبَّدٌ لَفْظًا مُؤَقَّتٌ مَعْنًى كَيَمِينِ الْفَوْرِ إذَا قَالَ: تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي.
فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى يَتَوَقَّتُ يَمِينُهُ بِذَلِكَ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ سَبَقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُسْبَقْ بِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِهِ حِينَ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ إنْسَانٍ، فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ، ثُمَّ نَصَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْنَثَا وَبَنَاهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَبْتَنِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}، وَالْمُرَادُ الْإِمْكَانُ وَالْإِقْدَارُ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْبَرِّ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ الْبَرُّ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَوْتِ الْحَالِفِ، وَأَمَّا فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ فَفَوْتُ الْبَرِّ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحَالِفِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا قَالَ: وَرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ وَغَضَبِ اللَّهِ، وَسَخَطِ اللَّهِ، وَعَذَابِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَرِضَاهُ وَعِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا.
وَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ الْيَمِينُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى حُرُوفِ الْقَسَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوَّلًا فَنَقُولُ: حُرُوفُ الْقَسَمِ الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ، أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ فِي الْأَصْلِ، وَهِيَ بَدَلٌ عَنْ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ فَمَعْنَى قَوْلِهِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ}، أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ}؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ اقْتِرَانُهَا بِالْكِتَابَةِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: بِهِ وَبِك ثُمَّ الْوَاوُ تُسْتَعَارُ لِلْقَسَمِ بِمَعْنَى الْبَاءِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً؛ فَلِأَنَّ مَخْرَجَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَفِي الْعَطْفِ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْفِعْلِ مَعَ حَرْفِ الْوَاوِ بِأَنْ يَقُولَ: أَحْلِفُ وَاَللَّهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِتَوْسِعَةِ صِلَاتِ الِاسْمِ لَا لِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ مَعَ إظْهَارِ الْفِعْلِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ حَرْفُ الْوَاوِ مَعَ الْكِنَايَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ سَوَاءٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: وَأَبِيكَ وَأَبِي، ثُمَّ التَّاءُ تُسْتَعَارُ لِمَعْنَى الْوَاوِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ إحْدَاهُمَا بِمَعْنَى الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ تُرَاثُ وَوَارِثُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ لِتَوْسِعَةِ صِلَةِ الْقَسَمِ بِاَللَّهِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ التَّاءِ إلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِاَللَّهِ حَتَّى لَا يُقَالَ: بِالرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ بِاَللَّهِ خَاصَّةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} {تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، ثُمَّ الْحَلِفُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَمِينٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ كُلُّ اسْمٍ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَكُون يَمِينًا، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّحْمَنِ: إنْ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِالْقُرْآنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْقُرْآنِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُفِيدُ دُونَ مَا لَا يُفِيدُ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُجْعَلَ يَمِينًا، وَيَسْتَوِي إنْ قَالَ: وَاَللَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: اللَّهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ حَذْفَ بَعْضِ الْحُرُوفُ لِلْإِيجَازِ، قَالَ الْقَائِلُ: قُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ لَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي نَسِيتُ الْإِلْحَافْ أَيْ وَقَفْت إلَّا أَنَّ عِنْدَ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ عِنْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ يُذْكَرُ مَنْصُوبًا بِانْتِزَاعِ حَرْفِ الْخَافِضِ مِنْهُ، وَعِنْدَ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يُذْكَرُ مَخْفُوضًا؛ لِتَكُونَ كَسْرَةُ الْهَاءِ دَلِيلًا عَلَى مَحْذُوفِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِاَللَّهِ، فَإِنَّ الْبَاءَ وَاللَّامَ يَتَقَارَبَانِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ} أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ إذَا قَالَ لَهُ، وَعَنَى بِهِ الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِهَنِّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لِوَسِيمَةٍ عَلَى هَنَوَاتِ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَا مَعْنَاهُ لِلَّهِ إنَّكَ.
وَلَوْ قَالَ: وَأَيْمُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَعْنَاهُ أَيْمُنُ فَهُوَ جَمْعُ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَذْهَبُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ وَاَللَّهِ وَأَيْمُ صِلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ صَهٍ وَمَهْ، وَمَا شَاكَلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَعَمْرُو اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ النَّصِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ}، وَالْعَمْرُو هُوَ الْبَقَاءُ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْبَاقِي، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالصِّفَاتِ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: الْحَلِفُ بِصِفَاتِ الذَّاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَمِينٌ، وَالْحَلِفُ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالُوا: صِفَاتُ الذَّاتِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ كَالْقُدْرَةِ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ، يُقَالُ: رُحِمَ فُلَانٌ، وَلَمْ يُرْحَمْ فُلَانٌ، وَغَضِبَ عَلَى فُلَانٍ، وَرَضِيَ عَنْ فُلَانٍ.
قَالُوا: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا أَيْ مَعْلُومَكَ، وَيُقَالُ: عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ مَعْلُومُهُ، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ اللَّهِ.
(فَإِنْ قِيلَ): وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ الْمَقْدُورُ، ثُمَّ قَوْلُهُ وَقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينٌ.
(قُلْنَا): مَعْنَى قَوْلِهِ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إلَى أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامُهُ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تُعَايَنُ وَلَكِنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَذَا الْفَرْقِ الْإِشَارَةَ إلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ فَيَقُولُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْجَنَّةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وَإِذَا كَانَتْ الرَّحْمَةُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ، فَالسُّخْطُ وَالْغَضَبُ بِمَعْنَى النَّارِ، فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا غَيْرُ مَرَضِيٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ عِنْدَنَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ الْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا، وَمَا لَمْ يُتَعَارَفْ، الْحَلِفُ بِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَبِرَحْمَتِهِ وَبِغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، فَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ: وَعِلْمِ اللَّهِ يَمِينًا، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ: أَنَّهُ يَمِينٌ ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ، فَقَالَ لَا أَدْرِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وُجِدَ الْعَرَبُ يَحْلِفُونَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا.
وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَهِيَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى الْخُصُوصِ أَنَّهُ أَمَانَةُ اللَّهِ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الصِّفَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْأَمِينِ فَإِنْ قَالَ، وَوَجْهِ اللَّهِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الذَّاتِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}.
قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ هُوَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا.
قَالَ أَبُو شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ يَعْنِي الْجَهَلَةَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ يَمِينًا.
وَإِنْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الطَّاعَاتُ، كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».
وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ يَمِينًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَعْنَى وَحَقِّ اللَّهِ وَاَللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَالْحَقِّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَنَّهُ يَمِينٌ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ}، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْمَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ مَعْنَاهُ أَفْعَلُ هَذَا لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الْإِيلَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَلْفَاظَ الْقَسَمِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، كَقَوْلِهِمْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي الثَّانِي الْكَلَامُ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا لِلْمَاضِي بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَفِي الْمُسْتَقْبَلِ هَذَا اللَّفْظُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَفِي الْمَاضِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَمُوسِ أَيْضًا.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَصِيرُ كَافِرًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَارِي؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ، وَالْيَمِينُ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ، فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ هُوَ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ؟ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ- عَيْنُ مَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، أَوْ الْيَمِينُ يَتَنَوَّعُ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا أَوْ لِمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْجَوَارِي يَكُونُ يَمِينًا، فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ التَّحْرِيم، فَكَذَلِكَ فِي الْجَوَارِي، ثُمَّ مَعْنَى الْيَمِينِ فِي هَذَا اللَّفْظِ يَتَحَقَّقُ بِالْقَصْدِ إلَى الْمَنْعِ أَوْ إلَى الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ عَلَامَةَ فِعْلِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ يَمِينًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حُرْمَةٌ تَامَّةٌ مُصْمَتَةٌ كَهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا جَعَلَ فِعْلَهُ عَلَامَةً لِذَلِكَ كَانَ يَمِينًا، فَأَمَّا إذَا قَالَ: هُوَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَسْتَحِلُّهَا أَوْ الدَّمَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إنْ فَعَلَ كَذَا، فَهَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ بِحُرْمَةٍ تَامَّةٍ مُصْمَتَةٍ، حَتَّى أَنَّهُ يَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هُوَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ أُلْحِقَ بِهِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ لَكَانَ قِيَاسًا، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْيَمِينِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ أَمَانَةُ اللَّهِ، أَوْ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِالنَّارِ، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا، إنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ}؛ وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ.
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَقُولُ: وَسُلْطَانِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا، مَنْ حَلَفَ بِهَذَا فَقَدْ أَشَارَ إلَى عَدَمِ الْعُرْفِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ فَهُوَ يَمِينٌ، كَقَوْلِهِ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ، وَلَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ إنْ فَعَلَ كَذَا فَفَعَلَ لَزِمَهُ ذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجِبْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ، كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ رَدَّ غَائِبِي لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ عَيْنِ مَا الْتَزَمَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَجَعَ إلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ خَالِدٍ التِّرْمِذِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلْتُ الْكُوفَةَ قَرَأْتُ كِتَابَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ، فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ الْحَجِّ إذَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تُوُفِّيَ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ: يَتَخَيَّرُ وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ أَيْضًا لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى فِي زَمَانِنَا، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، حَتَّى كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ فِي النَّذْرِ إلَّا الْوَفَاءَ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ نُجِّزَ النَّذْرُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يُجْعَلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَتَحْقِيقُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَفِي الِالْتِزَامِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُون مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِمَعْنَى الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ لَا يُوجَدُ هُنَا، وَفِي الْقَوْلِ بِالْخِيَارِ لَهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسِ وَاحِدٍ، حَتَّى إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ طَعَامُ أَلْفُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ يَقُولُ بِالْخِيَارِ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَبَيْنَ إطْعَامِ أَلْفِ مِسْكِينٍ، وَكَذَا الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ، وَإِنْ قَالَ الْمُعْسِرُ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، يُخَيِّرُهُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ قَوْلُهُ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، فَيُحْمَلُ هَذَا النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَمَا رَوَوْهُ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِمَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ؛ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ هَذَا مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بِالنَّذْرِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَفِيَ بِهَا، فَيَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، فَإِذَا جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِهِ، يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ يُسَمَّى يَمِينًا.
يُقَالُ: حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَلِوُجُودِ اسْمِ الْيَمِينِ، وَمَعْنَاهَا قُلْنَا يَخْرُجُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِوُجُودِ مَعْنَى النَّذْرِ قُلْنَا: يَخْرُجُ عَنْهُ بِعَيْنِ مَا الْتَزَمَهُ بِخِلَافِ النَّذْرِ الْمُرْسَلِ، فَاسْمُ الْيَمِينِ وَمَعْنَاهَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إلَى الْمَنْعِ بَلْ قَصْدُهُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيمَا جَعَلَهُ شَرْطًا، يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ مَعْنَى الْحَظْرِ يَتَحَقَّقُ هُنَا؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالنَّذْرِ قِرْبَةٌ بِشَرْطِ أَنْ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ، فَأَمَّا بِدُونِ الْوَفَاءِ يَكُونُ مَعْصِيَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} الْآيَةَ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَفِي بِهَذَا أَوْ لَا يَفِي فَيَكُونُ مُتَرَدِّدًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَة، (فَإِنْ قِيلَ): هَذَا فِي النَّذْرِ الْمُرْسَلِ مَوْجُودٌ.
(قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ اسْمِ الْيَمِينِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَاسْمُ الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ فِي النَّذْرِ الْمُرْسَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ يَمِينٌ يَتَوَقَّفُ مُوجِبُهَا عَلَى تَنْفِيذٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَخْرُجُ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ مُوجِبُهَا عَلَى تَنْفِيذٍ مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَلَوْ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا كَانَتْ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ هُنَا، وَلَوْ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ كَانَتْ مَشْرُوعَةً خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَّ عَلَى بِرِّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ الْمَشْيُ، فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَوْلَى وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى الْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَفِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، فَجَعَلْنَا هَذَا عِبَارَةً عَنْ الْتِزَامِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِإِظْهَارِ مَا فِي بَاطِنِهِمْ، فَإِذَا صَارَ اللَّفْظُ فِي شَيْءٍ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا يُجْعَلُ كَالْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا النُّسُكَانِ الْمُتَعَلِّقَانِ بِالْبَيْتِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ، وَإِلَّا بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ، مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا»؛ وَلِأَنَّ النُّسُكَ بِصِفَةِ الْمَشْيِ يَكُونُ إثْمٌ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}، فَإِذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدْخَلَ فِيهِ نَقْصًا، وَنَقَائِصُ النُّسُكِ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَمَا سِوَاهُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ثَمَانِ فُصُولٍ فِي ثَلَاثٍ يَلْزَمُ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ، وَفِي ثَلَاثٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ السَّفَرَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ الرُّكُوبَ وَفِي فَصْلَيْنِ خِلَافٌ، وَهُوَ مَا إذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ، وَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ.
وَلَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَصَارَتْ مُعَدَّةٌ لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عُمِلَتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَيْهَا شَيْءٌ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْمُلْتَزِمُ بِالْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ الْمُخْتَصُّ أَدَاؤُهُمَا بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا أُحْرِمُ إنْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أَهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعُدَّ مِنْ نَفْسِهِ عُدَّةً وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَعْدٌ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَالْوَعْدُ فِيهِ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِيجَابُ لَزِمَهُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَإِذَا أَرَادَ الْإِيجَابَ فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِنِيَّتِهِ، وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِيجَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودُ الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْوُجُوبُ دُونَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ عِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِيجَابَ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ دَلِيلُ الْإِيجَابِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْمَنَاسِكِ.
وَإِذَا حَلَفَ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا يَمْلِكُهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ»، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الشَّاةَ، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَهْدِيَنَّ هَذِهِ الشَّاةَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ، وَذَلِكَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُمْكِنًا، وَمَحِلُّ النَّذْرِ فِعْلٌ وَهُوَ قُرْبَةٌ، وَإِهْدَاءُ شَاةِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْيَمِينَ فَحِينَئِذٍ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ فِي النَّذْرِ مَعْنَى الْيَمِينِ حَتَّى ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَعَنَى بِهِ الْيَمِينَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا، كَانَ يَمِينًا، وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ؛ لِقَوْلِهِ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي، أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّهُ إنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْهَدْيِ، فَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، وَفِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ إمَّا أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِإِرَاقَةِ دَمٍ مَحْقُونٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبِي أَوْ أُمِّي؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي سَمَّاهُ مَعْصِيَةً وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ مَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ مَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ كَشَاةِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِذَا نَذَرَ ذَبْحَ مَا لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَلَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: أَرَى عَلَيْك مِائَةُ بَدَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: ائْتِ ذَلِكَ الشَّيْخَ فَاسْأَلْهُ، وَأَشَارَ إلَى مَسْرُوقٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَرَى عَلَيْكَ شَاةً فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: وَأَنَا أَرَى عَلَيْك ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ بَدَنَةً أَوْ مِائَةَ بَدَنَةٍ.
وَسَأَلَتْ امْرَأَةٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَتْ إنِّي جَعَلْتُ وَلَدِي نَحِيرًا.
فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ.
فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي بِقَتْلِ وَلَدِي، فَقَالَ: نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِ الْوَلَدِ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ إنْ تَمَّ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ أَنْ يَذْبَحَ عَاشِرَهُمْ، فَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ بِعَبْدِ اللَّهِ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْرَع بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَزِيدُ عَشْرًا عَشْرًا، وَالْقُرْعَةُ تَخْرُجُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ الْإِبِلُ مِائَةً، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَحَرَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَرَى عَلَيْك مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَخْرُج بِهِ، فَاسْتَدْلَلْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُ بَعْضُ الْكِبَارِ مِنْهُمْ، وَلَا يَظْهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ قَدْ اُشْتُهِرَ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ أَخْطَأَ الْفُتْيَا لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَاذٌّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، فَإِنَّ قَوْلَ مَرْوَانَ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِ قَوْلِهِ إلَّا عَلَى السَّمَاعِ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، ثُمَّ أَخَذْنَا بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ فِي إيجَابِ الشَّاةِ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ بَدَنَةً أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ؛ أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ الشَّاةَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَنْ أَوْجَبَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْأَخْذُ بِفِعْلِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِفِعْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْفِقْهِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الشَّاةَ مَحَلٌّ لِوُجُوبِ ذَبْحِهَا بِإِيجَابِ ذَبْحٍ مُضَافٍ إلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ إضَافَةُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ إلَى الْوَلَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الشَّاةِ، فَيَكُونُ مَلْزَمَةً.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَلِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَدَهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ: {إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أَيْ أُمِرْتُ بِذَبْحِك، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}؛ وَلِأَنَّهُمَا اعْتَقَدَا الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَيْثُ اشْتَغَلَا بِهِ فَأُقِرَّا عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُ الرُّسُلِ عَلَى الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ، خُصُوصًا فِيمَا لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ مِنْ إرَاقَةِ دَمِ نَبِيٍّ، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ذَبْحُ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أَيْ حَقَقْتَ، وَإِنَّمَا حُقِّقَ ذَبْحُ الشَّاةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا سَمَّاهُ مُصَدِّقًا رُؤْيَاهُ قَبْلَ ذَبْحِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، مَعْنَاهُ وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَبْلَ ذَبْحِ الشَّاةِ إنَّمَا أَتَى بِمُقَدَّمَاتِ ذَبْحِ الْوَلَدِ مِنْ تَلِّهِ لِلْجَبِينِ وَإِمْرَارِهِ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَبِهِ لَمْ يَحْصُلْ الِامْتِثَالُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَبْحٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الِامْتِثَالُ بِهِ لَمْ تَكُنْ الشَّاةُ فِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الشَّاةِ بِأَمْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ أَمْرٍ آخَرَ بِالرَّأْيِ غَيْرُ مُمَكَّنٍ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِدَاءً.
وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الشَّاةَ فِدَاءً عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ مَكْرُوهَ الذَّبْحِ عَنْ الْوَلَدِ بِالشَّاةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِمُقَدِّمَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الشَّاةُ فِدَاءً عَنْ وَلَدٍ وَجَبَ ذَبْحُهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي النَّذْرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحَ الْوَلَدِ حَتَّى جُعِلَتْ الشَّاةُ فِدَاءً، إذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَأَدَّى بِالْفِدَاءِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فِي يَدِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَعْصُومًا عَنْ الذَّبْحِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِصْمَةُ حِسًّا عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الشَّفْرَةَ كَانَتْ تَنْبُو وَتَنْفُلُ وَلَا تَقْطَعُ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا عَنْ الذَّبْحِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الذَّبْحِ مُنَافَاةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ بَلْ أُضِيفَ الْإِيجَابُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَنْحَلَّ الْوُجُوبُ بِالشَّاةِ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ الِابْتِلَاءُ فِي حَقِّ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالِاسْتِسْلَامِ وَإِظْهَارِ الطَّاعَةِ فِيمَا لَا يَضْطَلِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَلِلْوَلَدِ بِالِانْقِيَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُجَاهَدَةِ بَذْلِ الرُّوحِ إلَى مُكَاشَفَةِ الْحَالِ؛ وَلِيَكُونَ لَهُ ثَوَابُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» وَمَا ذُبِحَا بَلْ أُضِيفَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ فُدِيَا بِالْقِرَابَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: قَدْ وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ، ثُمَّ تَحَوُّلَ وُجُوبُ ذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى الشَّاةِ بِانْتِسَاخِ الْمَحَلِّيَّةِ فَتَكُونُ الشَّاةُ وَاجِبَةً بِذَلِكَ الْأَمْرِ كَالدَّيْنِ يُحَالُ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، فَيَفْرُغُ الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فِيهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي بِذَلِكَ السَّبَبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لَهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَحَوَّلَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يَبْقَى الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ صَالِحًا لِمِثْلِهِ كَالدَّيْنِ إذَا حُوِّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، وَلَمْ يَبْقَ الْوَلَدُ مَحَلًّا صَالِحًا لِذَبْحٍ هُوَ قُرْبَانٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا، وَأَنَّ الْوُجُوبَ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِيجَابِ حَلَّ بِالشَّاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً.
نَظِيرُهُ مِنْ الْحَيَاةِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ فَيَفْدِيَهُ غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ لِيَنْفُذَ السَّهْمُ فِيهِ، لَا أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا وَصَلَ إلَى الْمَحَلِّ، وَيَقُولُ لِغَيْرِهِ: فَدَتْك نَفْسٌ عَنْ الْمَكَارِهِ.
وَالْمُرَادُ هَذَا وَمِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْخُفِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّجْلِ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْحَدَثِ، لَا أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْخُفِّ مَا حَلَّ بِالرِّجْلِ مِنْ الْحَدَثِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ لَا لِعَيْنِهِ، وَلِهَذَا صَارَ مُحَقِّقًا رُؤْيَاهُ بِالْفِدَاءِ وَفِي مِثْلِ هَذَا إيجَابُ الْأَصْلِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ يَكُونُ إيجَابًا لِلْفِدَاءِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ الصَّوْمَ يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ شَرْعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْفِدَاءُ لَا لِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَذَرَ الذَّبْحَ لِأَوَّلِ وَلَدٍ يُولَدُ لَهُ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ فَذُكِّرَ فِي الْمَنَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَصٌّ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ خُصُوصًا شَرِيعَةُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَ {اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
فَأَمَّا إذَا نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا، وَقَالَ أَيْضًا: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَسْبُهُ وَمِلْكُهُ، فَإِذَا صَحَّ إضَافَةُ النَّذْرِ إلَى الْوَلَدِ لِكَوْنِهِ كَسْبًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَلَأَنْ يَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَى كَسْبِهِ، وَهُوَ مِلْكُهُ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الشَّاةِ فِدَاءً عَنْ الْوَلَدِ لِكَرَامَةِ الْوَلَدِ، وَالْعَبْدُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ لَيْسَ بِنَظِيرِ الْوَلَدِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَإِنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنَ ابْنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَيْسَ نَظِيرَ الِابْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ كَالِابْنِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ كَالِابْنِ فِي حَقِّهِ.
وَإِنْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا كَالْأَجَانِبِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ، وَفِي الْهَارُونِيَّاتِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الشَّاةِ، وَكَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالطَّرَفِ الْآخَرَ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي الْمَنَاسِكِ بَيْنَ النَّذْرِ بِالْهَدْيِ وَالْبَدَنَةِ وَالْجَزُورِ.
وَإِذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»؛ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَالْحَلِفُ فِي مِثْلِهِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ سَاتِرَةً لِلذَّنْبِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِالنَّذْرِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ، أَوْ الْوَفَاءِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَخَلَ عَلَى الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مَعْصِيَةٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلَيْسَ أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْكَفَّارَةِ فِيهِ فَتَحَيَّرَ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ أَنْتَ مِنْ الْآرَائِيِّينَ، وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَإِذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ، وَهُوَ يَنْوِي صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَدْنَى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ الصِّيَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ إذَا نَوَى صَدَقَةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْمَنَاسِكِ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ فَيَقُولُ: وَأَبِيك وَأَبِي فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِجَدٍّ مِنْ جُدُودِهِ، وَمِنْ الْحَلِفِ بِالطَّوَاغِيتِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ: (أَحَدُهُمَا) حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَبِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، وَأَنَا أَحْلِفُ بِأَبِي فَقَالَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ، فَمَا حَلَفْت بَعْدَ ذَلِكَ لَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَعَالَ أُفَاخِرْك فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ».
وَإِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمُ الْكَلَامُ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَلَمْ يَصْبِرْ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنَيَاهُ».
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ وَمَرْفُوعًا: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ»، إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ}، يَعْنِي إذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا فَاسْتَثْنِ مَفْصُولًا، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ صَحِيحًا لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَسْتَثْنِي إذَا نَدِمَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُحَلِّلِ، وَفِي تَصْحِيحِ الِاسْتِثْنَاءِ مَفْصُولًا إخْرَاجُ الْعُقُودِ كُلِّهَا مِنْ الْبُيُوعِ، وَالْأَنْكِحَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُلْزَمَةً.
(قَالَ): وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ عَاتَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَقَالَ أَبَلَغَ مِنْ قَدْرِكَ أَنْ تُخَالِفَ جَدِّي؟ قَالَ: فَفِيمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمَفْصُولِ.
قَالَ: إنَّمَا خَالَفْته مُرَاعَاةً لِعُهُودِكَ، فَإِذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ فَبَارَكَ اللَّهُ فِي عُهُودِكَ إذَنْ، فَإِنَّهُمْ يُبَايِعُونَك وَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَيَسْتَثْنُونَ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِمْ لُزُومُ طَاعَتِك، فَنَدِمَ الْخَلِيفَةُ وَقَالَ: اُسْتُرْ هَذَا عَلَيَّ.
وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ}، أَيْ إذَا لَمْ تَذْكُرْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِك فَاذْكُرْهُ فِي آخَرِ كَلَامُك مَوْصُولًا بِكَلَامِكَ، ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُبْطِلٌ لِلْكَلَامِ، وَمَخْرَجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ أَيْمَانِ الْجَامِعِ.
وَإِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَحَنِثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ؛ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ بِأَوْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ عِنْدَنَا، وَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُطْلَقٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} وَلَكِنَّا نَشْتَرِطُ صِفَةَ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ وَرَدَ هُنَاكَ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ».
وَالثَّانِي قَوْلُهُ: «أَدُّوا مِنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ حَتَّى أَوْجَبْنَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ الْعَبْدِ الْكَافِرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ هُنَاكَ فِي السَّبَبِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ فَالتَّقْيِيدُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلنَا أَنْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُنَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَبَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ مُنَافَاةٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا.
(قَالَ): وَيَجُوزُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مِنْ الرِّقَابِ مَا يُجْزِي فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الرَّقَبَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الرَّقَبَةِ، سَوَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الظِّهَارِ.
رَجُلٌ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، فَذَلِكَ لَا يُجْزِي عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْعِتْقِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ وَالْوَاجِبُ هُوَ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، وَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ نَوْعًا رَابِعًا فِيمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِهِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ لِمَعْنَى حُصُولِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ بِهِ فِي يَوْمِهِ، وَفِي ذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْأَدَاءِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَمِنْ نَوْعَيْنِ، وَهُنَا الرَّقَبَةُ فِي التَّحْرِيرِ وَعَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي الْإِطْعَامِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ إخْلَالًا بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَإِنْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَأَخَّرَ الصَّوْمَ حَتَّى أَيْسَرَ لَمْ يُجْزِهِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إذَا صَامَ الْمُكَفِّرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُوهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، فَيَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ، وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَبْصَرَ الْمَاءَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ عَدَمَ الْوُجُودِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ لِتَصْحِيحِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ مِنْ الْوَاجِدِ لِلْمَالِ، وَلَكِنَّهُ شُرِطَ لِيَكُونَ الصَّوْمُ كَفَّارَةً يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ كَفَّارَةً لَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا، وَقَوْلٍ آخَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الْوُجُوبِ فِي الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ، وَمَا وَجَبَ عِنْدَ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَاعْتَبَرَهُ بِالْحُدُودِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْوُجُوبِ بِالتَّنَصُّفِ بِالرِّقِّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ لَا مَا يُكَفَّرُ بِهِ، كَالْوَاجِبِ بِالْحَدَثِ الطَّهَارَةُ دُونَ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمُنْعِمِ بِالْجِنَايَةِ وَالنِّعْمَةُ تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ لَا بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَإِذَا وَجَبَ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ لَا يَتَكَامَلُ بِالْحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ مِنْ بَعْدُ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ عَنْ ضَرُورَةٍ مَحْضَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مُوسِرًا فِي إحْدَى الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، فَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يُعْسِرَ مُفَرِّطٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ بِاعْتِبَارِ تَفْرِيطِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَمَا أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ فَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ لِلْأَدَاءِ.
وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ، وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ نَافِذٌ، وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ بِهِ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِيمَا يَمْلِكُ.
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتُ أَيْمَانٍ مُتَفَرِّقَةٌ فَأَعْتَقَ رِقَابًا بِعَدَدِهِنَّ، وَلَا يَنْوِي لِكُلِّ يَمِينٍ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا، أَوْ نَوَى فِي كُلِّ رَقَبَةٍ عَنْهُنَّ أَجْزَتْهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الظِّهَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ إحْدَاهُنَّ، وَأَطْعَمَ عَنْ الْأُخْرَى، وَكَسَا عَنْ الثَّالِثَةِ، كَانَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي كُلِّهَا سَوَاءً، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّ إعْتَاقَ الْجَنِينِ لَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْإِجْزَاءِ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ وَكَفَّارَةُ الْمَمْلُوكِ بِالصَّوْمِ مَا لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرُ مِنْ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ، وَلَا يُجْزِي أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ يُطْعِمَ، وَيَكْسُوَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهُ حَتَّى يَتَسَرَّى بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرِّ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِأَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ قَابِضًا لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَافِيَ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ مَالًا وَالْمَمْلُوكِيَّة مَالًا مُغَايِرَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ، وَالْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ.
وَإِنْ صَامَ الْمُعْسِرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا يُعْتِقُ، فَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ جَوَازِ الْبَدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا وَالصَّوْمُ الْمَظْنُونُ سَوَاءٌ.
ذِمِّيٌّ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ الْحَظْرُ أَوْ الْإِيجَابُ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} فَقَدْ جَعَلَ لِلْكَافِرِينَ يَمِينًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ بِاَللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَمِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ إنْ حَنِثَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَفَّرَ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ، وَنَظِيرُهُ الْعَبْدُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالتَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الطُّهْرَةِ كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهَا كَفَّارَاتٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا ثُمَّ تُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّائِبِ تَطَهُّرًا وَعَلَى الْكَافِرِ عُقُوبَةً».
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمُنْقِرِيُّ حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إنِّي حَلَفْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ قَالَ: نَذَرْتَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ»؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِصْرَارِهِ عَلَى الشِّرْكِ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِيجَابِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}.
وَالِاسْتِحْلَافُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَقْصُودِهَا، وَهُوَ النُّكُولُ أَوْ الْإِقْرَارُ وَانْعِقَادُ يَمِينِهِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا مُجِيزًا، فَأَمَّا هَذِهِ الْيَمِينِ مُوجِبُهَا الْبِرُّ لِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْدَ الْحِنْثُ مُوجِبُهَا الْكَفَّارَةُ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ صُورَةً فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْحُكْمُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعِبَادَةُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ كُرْهًا، وَأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ، وَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا التَّطَهُّرُ كَمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا تُقَامُ خِزْيًا وَعَذَابًا وَنَكَالًا، وَمَعْنَى التَّكْفِيرِ بِهَا إذَا جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلِهَذَا يَسْتَقِيمُ إقَامَتُهَا عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ.
رَجُلٌ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ يَنْوِي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَيَتَأَدَّى بِهِ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِيهَا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ».
(قَالَ): وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجُوزُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَهُ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَجْهَانِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ}.
وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ الْوَصْلِ فَيَقْتَضِي جَوَازَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ مَوْصُولًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيُكَفِّرْ، ثُمَّ لِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يُفِيدَ الْجَوَازَ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ، فَإِنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ عَلَى يَمِينٍ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْتِزَامَ السَّبَبِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ الْوَاجِبِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْيَمِينُ دُونَ الشَّرْطِ، حَتَّى يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ أَدَاءُ الْحَقِّ الْمَالِيِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ مَالِيَّةٌ تَوَقَّفَ وُجُوبُهَا عَلَى مَعْنًى، فَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَهُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي الْآدَمِيِّ وَالصَّيْدِ إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا، ثُمَّ كَفَّرَ بِالْمَالِ قَبْلَ زَهُوقِ الرُّوحِ، أَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ يَجُوزُ بِالْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَقِيقَةً، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيُكَفِّرْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ التَّكْفِيرِ، وَلَا يَجُوزُ مُطْلَقُ التَّكْفِيرِ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ، أَمَّا قَبْلَ الْحِنْثِ يَجُوزُ عِنْدَهُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ مَا يُكَفَّرُ بِهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْمَلْفُوظِ الَّذِي لَهُ عُمُومٌ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى حَدِّ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى الشَّيْءِ طَرِيقًا لَهُ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ مُحَرِّمَةٌ لَهُ فَكَيْفَ تَكُونُ مُوجِبَةً لِمَا يَجِبُ بَعْدَ الْحِنْثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِمَّا يَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ طَرِيقٌ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الرُّوحِ، وَبِخِلَافِ كَمَالِ النِّصَابِ، فَإِنَّهُ تَحَقُّقُ الْغِنَى الْمُؤَدِّي إلَى النَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْمَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ بِالْحِنْثِ الْيَمِينُ يَرْتَفِعُ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّيْءِ فَالْوُجُوبُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقَرُّرِهِ لَا عَلَى ارْتِفَاعِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْيُمْنَ لَيْسَتْ بِسَبَبِ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ الْأَدَاءُ جَائِزٌ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ مُتَأَخِّرًا إلَى أَنْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ، كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ، وَالْإِحْرَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ، فَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ لِيَصِيرَ عِنْدَ أَدَائِهَا كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْخَلَفِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ بَاقٍ وَهُوَ الْبِرُّ، فَلَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا كَمَا لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَوْبَةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: {تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ}، وَالتَّوْبَةُ قَبْلَ الذَّنْبِ لَا تَكُونُ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُعَظِّمٌ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الذَّنْبُ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ جَزَاءُ جِنَايَتِهِ، وَجِنَايَتُهُ فِي الْجَرْحِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ، وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ الْمَالُ دُونَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، فَكَانَ حَوْلَانُ، الْحَوْلِ تَأْجِيلًا فِيهِ، وَالتَّأْجِيلُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، فَكَيْفَ يَنْفِي تَقَرُّرَ السَّبَبِ؟
.
(قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ عَنْ ثُلُثِهِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ مِنْ الْعِتْقِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، فَقَدْ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَكَانَ هَذَا عِتْقًا بِعِوَضٍ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَالٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِمَالٍ لَا يَتَمَحَّضُ قُرْبَةً، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِتْقِ وَقَعَ غَيْرَ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْزِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.